كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإيمان هو الذي يصل الإنسان بربه؛ فيجعل لعمله قيمة ووزنًا، ويجعل له مكانه في حساب هذا الكون وبنائه.
وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين. تعدم إعدامًا يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة:
{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا}.
وهنا يلتفت إلى الجانب الآخر فإذا المؤمنون أصحاب الجنة ليتم التقابل في المشهد:
{أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا}.
فهم مستقرون مستروحون ناعمون في الظلال. والاستقرار هنا يقابل خفة الهباء المنثور. والاطمئنان يقابل الفزع الذي يطلق الاستعاذة في ذهول.
ولقد كان الكفار يقترحون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة. وربما كان ذلك تأثرًا بالأساطير الإسرائيلية التي كانت تصور الإله يتراءى لهم في سحابة أو عمود من النار. فهنا يعود ليرسم مشهدًا آخر يوم يتحقق اقتراحهم بنزول الملائكة إليهم:
{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلًا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يومًا على الكافرين عسيرًا}.
وهذه الآية وكثير غيرها في القرآن يقرر أن أحداثًا فلكية ضخمة ستتم في ذلك اليوم. وكلها تشير إلى اختلال كامل في النظام الذي يربط أجزاء هذا الكون المنظور وأفلاكه ونجومه وكواكبه. وإلى انقلاب في أوضاعه وأشكاله وارتباطاته، تكون به نهاية هذا العالم. وهو انقلاب لا يقتصر على الأرض، إنما يشمل النجوم والكواكب والأفلاك. ولا بأس من استعراض مظاهر هذا الانقلاب كما جاءت في سور متعددة. {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا البحار سجرت} {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت} {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت} {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} {إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثًا} {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن} {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها} {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش} {فارتقبت يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلًا} {السماء منفظر به} {إذا دكت الأرض دكًا} {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر} {فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت} {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا} {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} فهذه الآيات كلها تنبئ بأن نهاية عالمنا هذا ستكون نهاية مروعة، ترج فيها الأرض وتدك، وتنسف فيها الجبال، وتتفجر فيها البحار إما بامتلائها من أثر الاضطراب؛ وإما بتفجر ذراتها واستحالتها نارًا. كذلك تطمس فيها النجوم وتنكدر، وتشقق فيها السماء وتنفطر، وتتحطم فيها الكواكب وتنتثر، وتختل المسافات فيجمع الشمس والقمر، وتبدو السماء مرة كالدخان ومرة متلهبة حمراء.
إلى آخر هذا الهول الكوني الرعيب.
وفي هذه السورة الفرقان يخوف الله المشركين بتشقق السماء بالغمام. وقد يكون هو السحب المتراكمة من أبخرة تلك الانفجارات المروعة. وتنزل الملائكة يومئذ على الكافرين كما كانوا يقترحون، لا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ليتولوا عذابهم بأمر ربهم {وكان يومًا على الكافرين عسيرًا} بما فيه من هول، وبما فيه من عذاب.. فما لهم يقترحون نزول الملائكة وهم لا ينزلون إلا في مثل ذلك اليوم العسير؟
ثم يعرض مشهدًا من مشاهد ذلك اليوم، يصور ندم الظالمين الضالين. يعرضه عرضًا طويلًا مديدًا، يخيل للسامع أنه لن ينتهي ولن يبرح. مشهد الظالم يعض على يديه من الندم والأسف والأسى:
{ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولًا}.
ويصمت كل شيء من حوله؛ ويروح يمد في صوته المتحسر، ونبراته الأسيفة؛ والإيقاع الممدود يزيد الموقف طولًا ويزيد أثره عمقًا. حتى ليكاد القارىء للآيات والسامع يشاركان في الندم والأسف والأسى!
{ويوم يعض الظالم على يديه}.. فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها. إنما هو يداول بين هذه وتلك، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين. وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيمًا.
{يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا}.. فسلكت طريقه، لم أفارقه، ولم أضل عنه.. الرسول الذي كان ينكر رسالته ويستبعد أن يبعثه الله رسولًا!
{يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا}.. فلانًا بهذا التجهيل ليشمل كل صاحب سوء يصد عن سبيل الرسول ويضل عن ذكر الله.. {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني}.. لقد كان شيطانًا يضل، أو كان عونًا للشيطان {وكان الشيطان للإنسان خذولًا} يقوده إلى مواقف الخذلان، ويخذله عند الجد، وفي مواقف الهول والكرب.
وهكذا راح القرآن يهز قلوبهم هزًا بهذه المشاهد المزلزلة، التي تجسم لهم مصيرهم المخيف، وتريهم إياه واقعًا مشهودًا، وهم بعد في هذه الأرض، يكذبون بلقاء الله، ويتطاولون على مقامه دون توقير، ويقترحون الاقتراحات المستهترة والهول المرعب ينتظرهم هناك والندم الفاجع بعد فوات الأوان.
وبعد هذه الجولة في اليوم العسير يعود بهم إلى الأرض يستعرض موقفهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم واعتراضاتهم على طريقة تنزيل القرآن. ثم ينهي هذه الجولة بمشهدهم كذلك يوم الحشر والنشور.
{وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانًا وأضل سبيلًا}.
لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم. ويبصرهم. هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردًا. وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدي على نوره. وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق:
{وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا}.
وإن ربه ليعلم؛ ولكنه دعاء البث والإنابة، يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدًا، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
فيسليه ربه ويعزيه. فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات. فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله. ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين:
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا}.
ولله الحكمة البالغة. فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذي يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم؛ فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة، التي لا تبتغي مغانم قريبة. ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقًا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبة والفتنة. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتمًا مقضيًا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودًا. فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا. بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودًا، وأشدهم إيمانًا، وأكثرهم تطلعًا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس.. عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل. وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء. وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها. أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته. وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين. وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة.
فيكون هذا كله رصيدًا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء.
والذي يقع غالبًا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات، وهم ثابتون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن.. وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة. وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجًا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع!
من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوًا من المجرمين؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله. إنها الهداية إلى الحق، والانتهاء إلى النصر: {وكفى بربك هاديًا ونصيرًا}.
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي. فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية. فساد في القلوب، وفساد في النظم، وفساد في الأوضاع. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية. والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء. والذين يجدون فيه سندًا للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها.. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعًا عن وجودهم، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن. وكذلك المجرمون.. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، يستميتون في كفاحها. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية، لأنها تسير مع خط الحياة، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله.